من أشهر قصص القرآن الكريم قصة يوسف عليه السلام الذي لاقى من المحن الكثير منذ أن كان صبيا فتيا إلى إن صار شابا مكتمل الرجولة، وقد تناولت العديد من الكتب والمقالات والمحاضرات هذه القصة والعبر البليغة التي تحتويها حتى احترت ولم أدر أي المواضيع أختار، إلى أن اهتديت في موقع شبكة نور الاسلام إلى خطبة جمعة للدكتور سليمان بن حمد العودة، والتي يتناول في شطرها الأول المحن التي أصابت يوسف عليه السلام وفي شطرها الثاني العبر المستخلصة منها..
محنة يوسف عليه السلام القصة والعبر
د . سليمان بن حمد العودة
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام، كلما اغتم المسلمون، وترادفت الفتن، وتسلط الجبارون، ووقع الأذى على المسلمين، كلما كانت حاجتهم أشد لمعرفة سنن الله في الكون، وكان شوقهم أكبر للوقوف على سير الصالحين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.
ولئن كان الحديث قد مضى عن طائفة من أنبياء الله ورسله، وما فيها من دروس وعبر، يعقلها العالمون، وينساها الجاهلون، فإن يوسف عليه السلام نموذج للابتلاء، ومثال للصبر، ومؤشر لعاقبة المتقين، وفصول قصته تؤذن بأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن الله لا يؤيد كيد الخائنين، وأن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.. إلى غير ذلك من معان وقيم تبدو للعيان حين يكون الصبر واليقين، وتبرز للناظرين حين يكون الصدق ومجاهدة النفس، والانتصار على الشيطان في معركة الإغواء والإغراء.
أجل إخوة الإيمان إن المسافة هائلة بين غيابة الجب وبين علو الشأن في ملك مصر، والفرق كبير في عرف الناس بين يوسف عليه السلام وهو في غياهب السجن، وبين كونه من خلصاء ومستشاري عزيز مصر، وليس أقل منه الفرق بين يوسف عليه السلام وهو بمثابة السلعة تباع وتشترى بأزهد الأثمان، وينتقل في الرق من سيد إلى سيد، وهو لا يملك من أمره شيئاً وبين يوسف عليه السلام وهو على خزائن الأرض، يتبوأ منها حيث يشاء، يملك الكيل لفئة ويمنعه أخرى، ويمنع الميرة والطعام عن وفد ويهبه لآخرين.
ولكن هذه المسافة الهائلة، وتلك الفروق الكبيرة لم تكن في حياة الصديق عليه السلام، لولا الصدق والإحسان، والصبر ومراقبة الرحمن، والشكر لله والرضاء بما قسم والتسليم بالعسر واليسر، والدعوة لدين الله الخالص وتوحيده في كل حال، حتى وهو يعيش في ظلمات السجن ووحشته {ياصاحبي السجن أأ رباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار}.
وهذه العاقبة الحميدة وذلك التمكين العظيم في الأرض لم يتسن ليوسف عليه السلام إلا بعد أن امتحنه ربه وابتلاه، وبعد أن عانى صنوفاً من المحن والابتلاءات قص القرآن علينا محنة كيد الإخوة وما أشقه على النفس،
وظلم ذوي القربى أشذ مضاضة...على النفس من وقع الحسام المهند ومحنة الجب والخوف والترويع فيه وما صاحبها من أذى وشدة إذ ربطوه بحبل ودلوه فيه، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره حتى صعد إلى صخرة في وسطه، ولم يتخل الله عنه في هذه اللحظة، بل أنزل الله عليه اليسر في حال العسر، وطمأنه بما أوحى إليه أن له مخرجاً مما هو فيه، بل وسينصره الله على إخوته ويرفع درجته، وسيخبرهم بصنيعهم وهم لا يشعرون {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} ([2])
قال ابن عباس رضي الله عنهما.: ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك ([3]).
ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ودون تقديرأو معرفة من استرقه به، ولذا باعوه بأزهد الأثمان {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } ([4]).
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك:إن الضمير في قوله {وشروه}عائد على إخوة يوسف، وقال قتادة: بل هو عائد على السيارة، قال ابن كثير: والأول أقوى لأن قوله {وكانوا فيه من الزاهدين} إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه ([5]).
ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة وما صاحبها من إغراء. وشهوة وفتنة، وما أشدها وأقساها!! ويوسف عليه السلام في ريعان الشباب يمتلئ جسمه حيوية وقوة، وهو في حال غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها تتهيأ له، فالمرأة هي الداعية، وقد تزينت بكل ما تملك، والدعوة في بيت آمن حيث منزل عزيز مصر، والأبواب تغلق، ويبقى باب السماء مفتوحاً، فيتذكر يوسف عليه السلام من خلاله عظمة الله، ويتصور رقابته، ويرى برهان ربه، فيلوذ بحماه، وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع عن مقارفة الفاحشة، ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}([6]).
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير البرهان الذي رآه يوسف- عليه السلام-: والصواب أن يقال: إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به، وجائز أن يكون صورة يعقوب عليه السلام- عاضا على إصبعه- وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك، ولا صحة قاطعة على تعيين شيء من ذلك،فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى([7]).
إخوة الإسلام لم تقف محن يوسف عند هذا الحد، فثمة محنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز مع ما في السجن من غربة وعزلة ووحدة، فآلام السجين تشتد حين يكون السجن ظلماً وعدوانا، ومحنة السجين تتضاعف حين يكون الطهر والعفاف جريمة وتهمة يؤاخذ بها الصالحون المخلصون.
وتزداد الحيرة والغرابة حين نعلم أن الذين سجنوا يوسف عليه السلام قد تبين لهم من الآيات والبراهين القاطعة ما يبرىء ساحته {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} فقد القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحز أيدي النساء، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف عليه السلام كلها أدلة للبراءة كما قال([8]).
ومع ذلك يسجن يوسف عليه السلام حتى لا تنشر فضيحة امرأة العزيز بمراودتها يوسف عن نفسه عند عامة الناس، وهكذا حين يغيب العدل بين الناس يستهان بحق الأبرياء في سبيل الحفاظ على سمعة الكبراء، ويبقى بعد ذلك أن الذي يدخل السجن متهماً مظلوماً يخرج منه بعد حين عزيزاً مكرماً بريئاً {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}([9]).
ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم،وفي يديه لقمة العيش التي تقوتهم، وليست محنة السراء بأقل من محنة الضراء فثمة، دواعي الكبر والخيلاء، والشح والبخل، والظلم والعدوان، والغفلة عن ذكر الله والدار الآخرة كلها أدواء تصاحب الغنى واليسر إلا من رحم الله، ويوسف عليه السلام كما كان نموذجاً للصبر والرضا والتسليم بما قدر الله في زمن الشدة والضراء، فقد كان نموذجاً آخر للعدل والأمانة والشكر والذكر لله في زمن الفرج والسراء ومقاليد أمور مصر بيديه،وخزائن الأرض تحت تصرفه.. أجل لقد ضرب الصديق عليه السلام نموذجاً للعفة وحسن السياسة في الرعية، وعرفت الأرض والناس به نموذجاً للحكام الصالحين، الذين تكثر نفقاتهم دون منٍّ أو أذى، وتكثر الخيرات من حولهم، بهم تصلح الحياة الدنيا، وبسيرتهم يتذكر الناس الدار الآخرة، فلا جوع أو تسفيه، ولا فتنة ولا تخمة. وتأملوا كيف ترتبط الحياة الدنيا بالآخرة في أذهان العارفين {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}([10]) ألا إنها أخلاق الأنبياء، نماذج حرية بالاعتبار والاقتداء.
اللهم احشرنا مع البررة الأتقياء، وبلغنا منازل الشهداء... أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون.. أيتها الأخوات المؤمنات.. في قصة يوسف عليه السلام مزيد من الدروس والعبر لمن تأملها وتدبرها ففيها تسلية لكل مظلوم، وفيها تسرية لكل مغموم، إذ يتذكر مقام الصالحين، فيستيقن أن الابتلاء على قدر الإيمان واليقين "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ([11]).
ويقول عليه الصلاة والسلام- في حديث صحيح آخر- "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها- أي يقطع وسطها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشذ فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" ([12]).
وسورة يوسف كما يقول أهل التفسير: نزلت أول ما نزلت تسرية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في وقت كانوا في أشذ الحاجة إلى مثلها، فالسورة مكية، ويقال: إنها نزلت بعد سورة هود في تلك الفترة الحرجة بين عام الحزن بموت أبي طالب و خديجة رضي الله عنها سندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما للإسلام والمسلمين فرجاً ومخرجاً بالهجرة إلى المدينة.
وكما أخرج يوسف عليه السلام من حضن أبيه، وغرب عن ديار أهله ليواجه هذه الابتلاءات كلها، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين، كذلك أخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وضيق على المسلمين حتى هاجروا من مكة إلى المدينة مكرهين، وكان النصر والتمكين([13]).
وهي باقية كذلك تسرية لكل مسلم تنزل به فتنة أو تمر به ظروف وحالات تشابه حالة الصديق عليه السلام.
وما أحوج الدعاة للوقوف ملياً عند أحداث القصة يستلهمون منها العبر، ويتسلون بها حين الضجر، فتهديهم أن العاقبة للمتقين، وأن النصر في النهاية والتمكين لعباد الله الصالحين، ولكن لابد من الصبر والرضاء واليقين واحتساب الأجر عند رب العالمين.
وما أحوج الساسة والأمراء والمسؤولين لسياق القصة تبصرهم بقصر الحياة من جانب، وفداحة الظلم من جانب آخر، وتهديهم إلى أحسن أساليب الحكم والعدل في الرعية من جانب ثالث.
وقصة يوسف عليه السلام موقظة للرقابة من الله حين يكون إغراء الشهوة، وحين تتوافر للمرء أسباب الفاحشة والفتنة.
وهي تذكر بالاستغفار والتوبة حين تضعف النفس وتقع في الخطيئة، وتعترف بالضعف وتلتمس المخرج {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}([14]) .
{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين.قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} ([15]).
وفي القصة عزاء للسخاء الأتقياء، وسلوة للمتهمين الأبرياء.
وفيها يجتمع نموذج السراء والشكر ونموذج الضراء والصبر، وهما نموذجان ملازمان للمؤمن "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن،إن أصابته سراء شكره فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" ([16]).
وفي القصة يبرز الصبر سلاحاً يتكئ عليه المسلم في الشدائد والأزمات، وهو صبر لا تسخط فيه ولا جزع {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}([17]) . {فصبر جميل عسى الله أن يأتني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم }([18])
وكذلك يلتقي صبر يعقوب عليه السلام بعد رحلة شاقة من الهم والضيق وجدب الأرض ولوعة الفراق، وصبر يوسف عليه السلام بعد رحلة شاقة بين ظلمات الجب، وظلمات السجن وشدة الغربة، وألم التهمة.. يلتقي الصبران الجميلان بإذن الله ليجمع الشمل ويرأب الصدع، ويعود الصفا، وتنتهي في بيت يوسف وملكه حالة الفرقة والشحناء، ويخر الأبوان سجداً لله شاكرين، ويطلب الأبناء المخطئون العفو والمغفرة، ويتذكر الصديق مع أبيه رؤياه في صغره. ورؤيا الأنبياء عليهم السلام حق- ويقول {هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حفا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}([19]) ويذكر يوسف عليه السلام إخوته بعاقبة الصبر وجزاء الصابرين فيقول: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}([20]) .
اللهم ارزقنا الصبر والاحتساب، وادفع عنا وعن إخواننا المسلمين البلاء
والمحن، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب... هذا وصلوا..
ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 8/ 1415هـ
(1) يوسف(15)
(2) تفسير ابن كثير 4/302.
(3) يوسف (20)
(1) تفسير ابن كثير 4/305 .
(2) يوسف 24 .
(3) تفسير ابن كثير 4/309.
(1) القرطبي في تفسيره 9 / 186.
(2) يوسف 33.
(1) يوسف (101)
(1) رواه أحمد والبخاري وغيرهما ، صحيح الجامع 1/333.
(2) صحيح الجامع 1/334.
(1) سيد قطب : الظلال 4/1949-1950 بتصرف.
(2) يوسف 91 - 92 .
(3) يوسف 97 - 98 .
(1) رواه أحمد ومسلم عن صهيب، صحيح الجامع 4/26
(2) يوسف 18 .
(3) يوسف 83 .
(4) يوسف 100 .
(5) يوسف 9
المصدر:
شبكة نور الإسلام